يشهد الاقتصاد الخليجي مرحلة مفصلية تتجاوز حدود التعاون التقليدي نحو بناء منظومة تكامل اقتصادي حقيقية، تمكّنه من التكيف مع التحولات العالمية والمنافسة في أسواق تتغير بسرعة.
هذا التحول لم يعد شعاراً سياسياً، بل واقعاً اقتصادياً تترجمه الأرقام والمشروعات المشتركة، مدعوماً بإرادة وطنية تسعى إلى تحويل الخليج إلى كتلة اقتصادية مؤثرة إقليمياً ودولياً.
لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن العلاقات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي لم تعد تنحصر في التنسيق أو تبادل المنافع، بل باتت تشكل ركيزة للتكامل الإنتاجي والاستثماري.
ووفقاً للتقرير الصادر عن مؤسسة الخليج للاستثمار، فقد بلغ حجم التجارة البينية بين دول الخليج نحو 134.6 مليار دولار أمريكي في عام 2024، وهو ما يعكس نمّواً مطّرداً في حركة التبادل التجاري الداخلي.
كما تستمر الاستثمارات المشتركة في التوسع بوتيرة متسارعة، فيما تتقاطع الخطط التنموية في أهدافها ومجالاتها، ما يعزز الوعي الخليجي بأهمية الانتقال من التعاون إلى الاندماج الاقتصادي الكامل.
ووفقاً لتقديرات البنك الدولي، يُتوقع أن يحقق اقتصاد دول الخليج نمواً يبلغ 3.2 في المئة خلال عام 2025، ويرتفع إلى 4.5 في المئة في عام 2026، مدفوعاً بالتوسع في القطاعات غير النفطية التي سجلت نمواً بلغ 3.7 في المئة عام 2024.
هذه الأرقام تؤكد نجاح دول المجلس في تعزيز مرونتها المالية وتوسيع قاعدة تنويع الدخل، لتصبح القطاعات الجديدة من التكنولوجيا إلى الطاقة المتجددة محركاً رئيسياً للنمو المستدام.
وفي قلب هذا المشهد، تبرز الإمارات بوصفها قوة اقتصادية قائدة ومحفزاً للتكامل الخليجي. فقد سجلت التجارة غير النفطية للدولة في عام 2024 قفزة قياسية بلغت 3 تريليونات درهم، بزيادة قدرها 14.6 في المئة مقارنة بالعام السابق، ما عزز من مكانتها كمركز تجاري ومالي رئيسي يربط الخليج بالأسواق العالمية.
كما توقع المصرف المركزي الإماراتي أن ينمو الاقتصاد الوطني بنسبة 4.9 في المئة في عام 2025، مدفوعاً بالنشاط القوي في القطاعات غير النفطية، ولا سيما الخدمات، والتكنولوجيا، والطاقة النظيفة.
هذا الأداء يعكس رؤية إماراتية تقوم على تمكين السوق لا رعايته، وعلى قيادة التحول الإقليمي من خلال السياسات المرنة والمبادرات التكاملية. فالدولة لعبت دوراً جوهرياً في دعم مشروعات الربط الكهربائي والمائي، وتطوير أسواق المال الخليجية، وإنشاء منصات للاستثمار المشترك.
كما أن نجاح الإمارات في التحول الرقمي وتبني الذكاء الاصطناعي منحها ميزة تنافسية جعلتها نموذجاً يحتذى به في التحول الاقتصادي الخليجي.
ولا يمكن إغفال أن الإمارات أصبحت مركز القرار الاستثماري الخليجي في قطاعات الطيران والموانئ والطاقة المتجددة والخدمات المالية. فهي لا تستثمر داخل حدودها فقط، بل تُعيد تعريف مفهوم «رأس المال الخليجي» من خلال توسع مؤسساتها في الأسواق الإقليمية والعالمية، ما يجعلها جسراً للتكامل الاقتصادي الخارجي ورافعة لدور الخليج في الاقتصاد العالمي.
وما يميز التجربة الإماراتية أنها تجمع بين الدبلوماسية الاقتصادية والانفتاح الاستثماري في آنٍ واحد. فالإمارات، عبر شبكتها الواسعة من اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، تمهّد الطريق لتوسيع نطاق التعاون الخليجي نحو فضاءات جديدة في آسيا وأوروبا وإفريقيا.
هذه الاتفاقيات لا تعزز موقع الدولة فقط، بل تفتح أيضاً أسواقاً أمام الشركات الخليجية الأخرى، ما يجعل من الإمارات واجهة اقتصادية جماعية للمنطقة وليست مجرد لاعب وطني. كما أن المبادرات الإماراتية في الطاقة النظيفة والمناخ والاستدامة خصوصاً بعد استضافة مؤتمر COP28 ونجاح تجربة إكسبو 2020 دبي رسخت دورها كقوة توازن بين النمو الاقتصادي والمسؤولية الاجتماعية والبيئية على مستوى الخليج والعالم.
لكن تحقيق الحلم الخليجي المشترك يتطلب تجاوز النجاحات الفردية نحو بناء سوق موحدة فعّالة تجمع السياسات المالية والتشريعية والجمركية في إطار مؤسسي واحد. فالتكامل الحقيقي لا يتحقق بالاتفاقيات فقط، بل بقدرة الدول الأعضاء على تنسيق استراتيجياتها التنموية واستثمار نقاط قوتها بشكل تكاملي.
وهنا يمكن للخبرة الإماراتية في الحوكمة الاقتصادية وإدارة التنافسية أن تكون عنصراً حاسماً في بناء نموذج خليجي متماسك ومستدام.
لقد أثبتت التجربة أن الخليج عندما يعمل بروح الوحدة يصبح أكثر قدرة على مواجهة الأزمات وتوظيف الفرص. فالتكامل الاقتصادي لا يعني فقط تبادل السلع ورؤوس الأموال، بل بناء كتلة إقليمية قادرة على إنتاج المعرفة واستثمارها.
والإمارات، بما تمتلكه من رؤية اقتصادية شاملة وقدرات مالية وتنظيمية متقدمة، تمثل القلب النابض لهذا المشروع الخليجي المشترك، ودليلاً على أن الاقتصاد يمكن أن يكون لغة الوحدة الأنجع في زمن التكتلات الكبرى.
* كاتب وباحث إماراتي
الاقتصادية CNN