ينقل الكولونيل بيلي عن الشيخ جابر بن صباح حاكم الكويت الثالث أنه عندما كان في آخر أيامه دعا ابنه الشيخ صباح بن جابر (حاكم الكويت الرابع) وقال له:
«يا ولدي إنك تعلم أنني سأفارق الحياة، إنني أموت فقيرا دون أن أترك لك ثروة أو نقودا، غير أنني كونت في حياتي صداقات حقيقية خالصة مع أناس عديدين. عليك أن تعتمد على هؤلاء». ثم يكمل: «انظر الى الدول المختلفة.. تجد أنها قد تساقطت بسبب الظلم وسوء الإدارة، ولكن إمارتي كانت دائما تقوى وتتسع، تمسك بسياستي لتتقدم مشيختك وتزدهر».
منذ فجر ولادة الكويت كدولة كانت تحمل للشرق الأوسط أنموذجا مختلفا في السياسة والاقتصاد والإدارة، فالمهاجرون الذين أسسوا تلك الإمارة عانوا ويلات الفقر في الجزيرة العربية ومن شح الموارد، والاضطرابات السياسية في شرق الخليج العربي، فتعلموا أفضل دروسهم من المعاناة.
فكيف تمكنت هذه البقعة الجغرافية الميتة، بلا ماء، ولا زراعة ولا موارد طبيعية، أن تكون ميناء الشرق الأوسط وعصب الخليج التجاري والسياسي والثقل الدولي في المنطقة؟
إن نشأة الكويت واستقرارها وازدهارها قائم على أن تكون نموذجا منفردا، وأعني بذلك ألا تستنسخ أي نظام سياسي أو اقتصادي أو إداري من خارج بيئتها. فطبيعتها غير الطبيعية كانت ولا زالت بحاجة لنظام منفرد استثنائي وهذا ما جعل منها دولة استثنائية.
وهنا أعرج على محورين أساسيين في نموذج الكويت الاستثنائي:
الأول النموذج السياسي: فقبل أن تعرف الكويت الديموقراطية بشكلها الحديث، بنى الأجداد نظاما سياسيا يعالج مشكلات المستقبل فكان الحكم والإدارة شورى واتفاقا لا انفرادا وقوة وهذا ما عزز الجبهة الداخلية أمام أي تحديات خارجية.
فتاريخيا كانت الأخطار الحقيقية على الكويت خارجية لا داخلية، تستهدف سيادتها واستقرارها ومواردها فاستقوت الكويت أولا بثبات صفوفها في الداخل، وتشكيل تحالفات سياسية في الخارج تتصف بالبراغماتية فظلت الكويت وتغير المحيط.
الثاني النموذج الاقتصادي: الكويت كدولة فقيرة بالموارد اعتمدت بشكل أساسي على الإنسان، فكان الفرد الكويتي رأس المال الحقيقي للدولة، فالإبداع والابتكار والحرف كانت المصدر الأول للدخل والوظائف وحتى العلاقات السياسية التجارية مع المحيط. فحول الأجداد البقعة الصفراء إلى ميناء تجاري وبقعة لاستقرار المبتكرين والمبادرين الذين يحلمون بالهجرة من بلدانهم الغنية بالموارد للكويت لتحقيق «الحلم الكويتي».
ومع ظهور النفط تحولت الكويت، تلك الطاقة الحية، إلى كهل كسول، فتحول الجميع من مبادرين إلى موظفين، ومن عاملين إلى خاملين. هذا وصف أدبي للمرض الهولندي والذي يشخص حال الدول ذات الموارد الطبيعية الكبيرة والإنتاج القليل. دولة غنية بالموارد المالية تبيع مواردها الخام لتعيد شراءها، وتستورد العمالة رغم وجود البطالة.
ولعل الدافع الذي حفزني لكتابة هذا المقال، هو صدور مرسوم تعيين الشيخ د.محمد صباح السالم رئيسا لمجلس الوزراء، وهو الذي عرفت عنه أثناء مزاملتي له في عضوية المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية اتساع أفقه فيما يتعلق بالعلاقات الدولية واهتمامه الشديد بالمحافظة على مكانة الكويت الاستراتيجية للعالم، وهو ما يشكل الأمن الاستراتيجي للكويت، كذلك معرفته الاقتصادية وهو أستاذ الاقتصاد الذي كانت له رؤى أحد أعمدتها التوازن ما بين السوق المفتوح وتنظيم الدولة ، لكي لا يؤدي إلى تسليع المجتمع فيصبح كل شيء متاحا للبيع من التعليم وحتى المبادئ.
واليوم أشعر ببصيص أمل بوجود قيادة لا تعرف المشكلات فقط، بل لديها رؤية للحلول أن تقود الكويت لتصنع لها أنموذجا استثنائيا.
والحذر كل الحذر من اللجوء للإعلام والخضوع لابتزاز التواصل الاجتماعي رغبة في تحسين الصورة، فالصورة لن تحسنها إلا الاجراءات التي تتخذها القيادة الحكيمة.
وكلي أمل ورجاء من البرلمان الكويتي أن يقوّم ويساند أي نهج إصلاحي، فالمرض الهولندي بحاجة الى جراح ماهر، والإصلاحات الجذرية تأتي معها أخطاء قابلة للتقويم فلا يجب أن نجعلها مادة للثأر.
أعان الله صاحب السمو الأمير الشيخ مشعل الأحمد، ورزقه البطانة الصالحة، وحمى الكويت وشعبها من كل مكروه.